فصل: من فوائد ابن عاشور في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد ابن عاشور في الآية:

قال رحمه الله:
{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ} الآية.
عطف على جملة {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة} [البقرة: 30] عطفَ القصة على القصة.
وإعادة إذ بعد حرف العطف المغني عن إعادة ظرفه تنبيهٌ على أن الجملة مقصودة بذاتها لأنها متميزة بهذه القصة العجيبة فجاءت على أسلوب يؤذن بالاستقلال والاهتمام، ولأجل هذه المراعاة لم يؤت بهذه القصة معطوفة بفاء التفريع فيقول: {فقلنا للملائكة اسجدوا لآدم} وإن كان مضمونها في الواقع متفرعًا على مضمون التي قبلها فإن أمرهم بالسجود لآدم ما كان إلا لأجل ظهور مزيته عليهم إذ علم ما لم يعلموه وذلك ما اقتضاه ترتيب ذكر هذه القصص بعضها بعد بعض ابتداء من خلق السماوات والأرض وما طرأَ بعده من أطوار أصول العامرين الأرض وما بينها وبين السماء فإنْ الأصل في الكلام أن يكون ترتيب نظمه جاريًا على ترتيب حصول مدلولاته في الخارج ما لم تُنصب قرينة على مخالفة ذلك.
ولا يريبك قوله تعالى في سورة الحِجر (28، 29) {إني خالق بشرًا من صلصال من حمأ مسنون} فإذا سويتُه ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين لأن تلك حَكَتْ القصة بإجمال فطوتْ أَنباءها طيًّا جاء تبيينه في ما تكرر منها في آيات أخرى وأوضحها آية البقرة لاقتضاء الآية السابقة أن فضيلة آدم لم تظهر للملائكة إلا بعد تعليمه الأسماءَ وَعَرْضِها عليهم وعجزهم عن الإنباء بها وأنهم كانوا قبل ذلك مترقبين بيان ما يكشف ظنهم بآدم أن يكون مفسدًا في الأرض بعد أن لازموا جانب التوقف لما قال الله لهم: {إني أعلم ما لا تعلمون} [البقرة: 30]، فكان إنباء آدم بالأسماء عند عجزهم عن الإنباء بها بيانًا لكشف شبهتهم فاستحقوا أن يأتوا بما فيه معذرة عن عدم علمهم بحقه.
وقد أريد من هذه القصة إظهارُ مزية نوع الإنسان وأن الله يخص أجناس مخلوقاته وأنواعها بما اقتضته حكمته من الخصائص والمزايا لئلا يخلو شيء منها عَنْ فائدة من وجوده في هذا العالم؛ وإظهارُ فضيلة المعرفة، وبيانُ أن العالم حقيق بتعظيم مَن حوله إياه وإظهارُ ما للنفوس الشريرة الشيطانية من الخبث والفساد، وبيانُ أن الاعتراف بالحق من خصال الفضائل الملائكية، وأن الفساد والحسد والكبِر من مذام ذوي العقول.
والقول في إعراب إذ كالقول الذي تقدم في تفسير قوله: {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة} [البقرة: 30].
وإظهار لفظ الملائكة ولفظ آدم هنا دون الإتيان بضميريهما كما في قوله: {قالوا سبحانك} [البقرة: 32] وقوله: {فلما أنبأهم} [البقرة: 33] لتكون القصة المعطوفة معنونة بمثل عنوان القصة المعطوف عليها إشارة إلى جدارة المَعْطُوفة بأن تكون قصة مقصورة غير مندمجة في القصة التي قبلها.
وغُير أسلوبُ إسناد القول إلى الله فأُتي به مسندًا إلى ضمير العظمة {وإذ قلنا} وأُتي به في الآية السابقة مسندًا إلى رب النبيء {وإذ قال ربك} [البقرة: 30] للتفنن ولأن القول هنا تضمن أمرًا بفعلٍ فيه غضاضة على المأمورين فناسبه إظهار عظمة الآمر، وأما القول السابق بمجرد إعلام من الله بمراده ليظهرَ رأيهم، ولقصد اقتران الاستشارة بمبدأ تكوين الذات الأولى من نوع الإنسان المحتاج إلى التشاور فناسبه الإسناد إلى الموصوف بالربوبية المؤذنة بتدبير شأن المربوبين.
وأضيف إلى ضمير أشرف المربوبين وهو النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم عند قوله تعالى: {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة}.
وحقيقة السجود طأطأة الجسد أو إِيقاعه على الأرض بقصد التعظيم لمشاهَد بالعيان كالسجود للملك والسيد والسجود للكواكب، قال تعالى: {وخروا له سجَّدًا} [يوسف: 100]، وقال: {لا تسجدوا للشمس ولا للقمر} [فصلت: 37] وقال الأعشى:
فلما أتانا بُعَيْد الكرى ** سجَدْنا له وخلَعْنَا العِمارا

وقال أيضًا:
يراوح من صلوات المليـ ** ـك طورًا سُجودًا وطورًا جؤارًا

أو لمشاهد بالتخيل والاستحضار وهو السجود لله، قال تعالى: {فاسجدوا لله واعبدوا} [النجم: 62].
والسجود ركن من أركان الصلاة في الإسلام.
وأما سجود الملائكة فهو تمثيل لحالة فيهم تدل على تعظيم، وقد جمع معانيه قوله تعالى: {ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون} [النحل: 49].
فكان السجود أول تحية تلقاها البشر عند خلق العالم.
وقد عرف السجود منذ أقدم عصور التاريخ فقد وجد عى الآثار الكلدانية منذ القرن التاسع عشر قبل المسيح صورة حمورابي ملك كلدية راكعًا أمام الشمس، ووجدت على الآثار المصرية صور أسرى الحرب سجدًا لفرعون، وهيئات السجود تختلف باختلاف العوائد.
وهيئة سجود الصلاة مختلفة باختلاف الأديان.
والسجود في صلاة الإسلام الخُرور على الأرض بالجبهة واليدين والرجلين.
وتعدية {اسجدوا} لاسم آدم باللام دال على أنهم كلفوا بالسجود لذاته وهو أصل دلالة لام التعليل إذا علق بمادة السجود مثل قوله تعالى: {فاسجدوا لله واعبدوا} [النجم: 62] وقوله: {لا تسجدوا للشمس ولا للقمر} [فصلت: 37] ولا يعكر عليه أن السجود في الإسلام لغير الله محرم لأن هذا شرع جديد نسخ ما كان في الشرائع الأخرى ولأن سجود الملائكة من عمل العالم الأعلى وليس ذلك بداخل تحت تكاليف أهل الأرض فلا طائل تحت إطالة البحث في أن آدم مسجود له أو هو قبلة للساجدين كالكعبة للمسلمين، ولا حاجة إلى التكلف بجعل اللام بمعنى إلى مثلها في قول حسان:
أليس أول من صلى لقبلتكم

فإن للضرورة أحكامًا.
لا يناسب أن يقال بها أحسن الكلام نظامًا.
وفي هذه الآية منزع بديع لتعظيم شأن العلم وجدارة العلماء بالتعظيم والتبجيل لأن الله لما علم آدم علمًا لم يؤهل له الملائكة كان قدجعل آدم أنموذجًا للمبدعات والمخترعات والعلوم التي ظهرت في البشر من بعد والتي ستظهر إلى فناء هذا العالم.
وقرأ أبو جعفر في أشهر الرواية عنه للملائكةُ اسجدوا بضمة على التاء في حال الوصل على إتْباع حركة التاء لضمة الجيم في اسجدوا لعدم الاعتداد بالساكن الفاصل بين الحرفين لأنه حاجز غير حصين، وقراءته هذه رواية وهي جرت على لغة ضعيفة في مثل هذا فلذلك قال الزجاج والفارسي: هذا خطأ من أبي جعفر، وقال الزمخشري: لا يجوز استهلاك الحركة الإعرابية بحركة الإتباع إلا في لغة ضعيفة كقراءة الحسن {الحمدِ لله} [الفاتحة: 2] بكسر الدال قال ابن جني: وإنما يجوز هذا الذي ذهب إليه أبو جعفر إذا كان ما قبل الهمزة ساكنًا صحيحًا نحو: {وقالتُ أخرج عليهن} في سورة يوسف (31) اهـ وإنما حملوا عليه هذه الحملة لأن قراءته معدودة في القراءات المتواترة فما كان يحسن فيها مثل هذا الشذوذ، وإن كان شذوذًا في وجوه الأدَاء لا يخالف رسم المصحف.
وعطف {فسجدوا} بفاء التعقيب يشير إلى مبادرة الملائكة بالامتثال ولم يصدَّهم ما كان في نفوسهم من التخوف من أن يكون هذا المخلوق مظهر فساد وسفك دماء لأنهم منزَّهون عن المعاصي.
واستثناء إبليس من ضمير الملائكة في {فسجدوا} استثناء منقطع لأن إبليس لم يكن من جنس الملائكة قال تعالى في سورة الكَهْفِ (50) {إلا إبليس كان من الجن} ولكن الله جعل أحواله كأحوال النفوس الملكية بتوفيق غلب على جبلته لتتأتى معاشرته بهم وسيره على سيرتهم فساغ استثناء حاله من أحوالهم في مظنة أن يكون مماثلًا لمن هو فيهم.
وقد دلت الآية على أن إبليس كان مقصودًا في الخبر الذي أخبر به الملائكة {إذ قال للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة} [البقرة: 30] وفي الأمر الذي أمر به الملائكة إذ قال لهم {اسجدوا لآدم} ذلك أن جنس المجردات كان في ذلك العالم مغمورًا بنوع المَلك إذ خلق الله من نوعهم أفرادًا كثيرة كما دل عليه صيغة الجمع في قوله: {وإذ قال ربك للملائكة} [البقرة: 30] ولم يخلق الله من نوع الجن إلا أصلهم وهو إبليس، وخلق من نوع الإنسان أصلهم وهو آدم.
وقد أقام الله إبليس بين الملائكة إقامة ارتياض وتخلق وسخره لاتباع سنَتهم فجرى على ذلك السَّنَن أمدًا طويلًا لا يعلمه إلا الله ثم ظهر ما في نوعه من الخبث كما أشار إليه قوله تعالى: {ففسق عن أمر ربه} في سورة الكهف (50) فعصى ربه حين أمره بالسجود لآدم.
وإبليس اسم الشيطان الأول الذي هو مولد الشياطين، فكان إبليس لنوع الشياطين والجن بمنزلة آدم لنوع الإنسان.
وإبليس اسم معرب من لغة غير عربية لم يعينها أهل اللغة، ولكن يدل لكونه معربًا أن العرب منعوه من الصرف ولا سبب فيه سوى العلمية والعجمة ولهذا جعل الزجاج همزته أصلية، وقال وزنه على فعليل.
وقال أبو عبيدة: هو اسم عربي مشتق من الإبلاس وهو البعد من الخير واليأس من الرحمة وهذا اشتقاق حسن لولا أنه يناكد منعه من الصرف وجعلوا وزنه إفعيل لأن همزته مزيدة وقد اعتذر عن منعه من الصرف بأنه لما لم يكن له نظير في الأسماء العربية عد بمنزلة الأعجمي وهو اعتذار ركيك.
وأكثر الذين أحصوا الكلمات المعربة في القرآن لم يعدوا منها اسم إبليس لأنهم لم يتبينوا ذلك وصلاحية الاسم لمادة عربية ومناسبته لها.
وجمل {أبى واستكبر وكان من الكافرين} استئناف بياني مشير إلى أن مخالفة حاله لحال الملائكة في السجود لآدم، شأنه أن يثير سؤالًا في نفس السامع كيف لم يفعل إبليس ما أمر به وكيف خالف حال جماعته وما سبب ذلك لأن مخالفته لحالة معشره مخالفة عجيبة إذ الشأن الموافقة بين الجماعات كما قال دريد بن الصمة:
وهل أنا إلا من غُزَيَّة إن غَوت ** غوَيْت وإِن ترشُد غزية أرشُد

فبين السبب بأنه أبى واستكبر وكفر بالله.
والإباء الامتناع من فعل أو تلقيه.
والاستكبار شدة الكبر والسين والتاء فيه للعد أي عد نفسه كبيرًا مثل استعظم واستعذب الشراب أو يكون السين والتاء للمبالغة مثل استجاب واستقر فمعنى استكبر اتصف بالكبر.
والمعنى أنه استكبر على الله بإنكار أن يكون آدم مستحقًا لأن يسجد هو له إنكارًا عن تصميم لا عن مراجعة أو استشارة كما دلت عليه آيات أخرى مثل قوله: {قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين} [الأعراف: 12] وبهذا الاعتبار خالف فعل إبليس قول الملائكة حين قالوا: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء} [البقرة: 30]، لأن ذلك كان على وجه التوقف في الحكمة ولذلك قالوا: {ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك} [البقرة: 30] فإبليس بإبائه انتقضت الجبلة التي جبل عليها أول مرة، فاستحالت إلى جبلة أخرى على نحو ما يعرض من تطور للعاقل حين يختل عقله وللقادر حين تشل بعض أعضائه، ومن العلل علل جسمانية ومنها علل روحانية كما قال:
فكنتُ كذي رجلين رجلٍ صحيحة ** ورجل رمى فيها الزمان فشَلت

والاستكبار التزايد في الكبر لأن السين والتاء فيه للمبالغة لا للطلب كما علمت، ومن لطائف اللغة العربية أن مادة الاتصاف بالكبر لم تجئ منها إلا بصيغة الاستفعال أو التفعل إشارة إلى أن صاحب صفة الكبر لا يكون إلا متطلبًا الكبر أو متكلفًا له وما هو بكبير حقًا ويحسن هنا أن نذكر قول أبي العلاء:
علوتمُ فتواضعتمْ على ثقة ** لما تواضع أقوام على غرر

وحقيقة الكبر قال فيها حجة الإسلام في كتاب الإحياء: الكبر خلق في النفس وهو الاسترواح والركون إلى اعتقاد المرء نفسه فوق التكبر عليه، فإن الكبر يستدعي متكبرًا عليه ومتكبرًا به وبذلك ينفصل الكبر عن العجب فإن العجب لا يستدعي غير المعجب ولا يكفي أن يستعظم المرء نفسه ليكون متكبرًا فإنه قد يستعظم نفسه ولكنه يرى غيره أعظم من نفسه أو مماثلًا لها فلا يتكبر عليه، ولا يكفي أن يستحقر غيره فإنه مع ذلك لو رأى نفسه أحقر لم يتكبر ولو رأى غيره مثل نفسه لم يتكبر بل أن يرى لنفسه مرتبة ولغيره مرتبة ثم يرى مرتبة نفسه فوق مرتبة غيره، فعند هذه الاعتقادات الثلاثة يحصل خلق الكبر وهذه العقيدة تنفخ فيه فيحصل في نفسه اعتداد وعزة وفرح وركون إلى ما اعتقد، وعز في نفسه بسبب ذلك فتلك العزة والهزة والركون إلى تلك العقيدة هو خلق الكبر.
وقد كانت هذه الآية ونظائرها مثار اختلاف بين علماء أصول الفقه فيما تقتضيه دلالة الاستثناء من حكم يثبت للمستثنى فقال الجمهور: الاستثناء يقتضي اتصاف المستثنى بنقيض ما حكم به للمستثنى منه فلذلك كثر الاكتفاء بالاستثناء دون أن يتبع بذكر حكم معين للمستثنى سواء كان الكلام مثبتًا أو منفيًا.
ويظهر ذلك جليًا في كلمة الشهادة لا إله إلا الله فإنه لولا إفادة الاستثناء أن المستثنى يثبت له نقيض ما حكم به للمستثنى منه لكانت كلمة الشهادة غير مفيدة سوى نفي الإلهية عما عدا الله فتكون إفادتها الوحدانية لله بالالتزام.
وقال أبو حنيفة الاستثناء من كلام منفي يُثبت للمستثنَى نقيضَ ما حكم به للمستثنى منه، والاستثناء من كلام مثبت لا يفيد إلا أن المستثنى يثبت له نقيض الحكم لا نقيض المحكوم به، فالمستثنى بمنزلة المسكوت عن وصفه، فعند الجمهور المستثنى مخرج من الوصف المحكوم به للمستثنى منه وعند أبي حنيفة المستثنى مخرج من الحكم عليه فهو كالمسكوت عنه.
وسوى المتأخرون من الحنفية بين الاستثناء من كلام منفي والاستثناء من كلام مثبت في أن كليهما لا يفيد المستثنى الاتصاف بنقيض المحكوم به للمستثنى منه وهذا رأي ضعيف لا تساعده اللغة ولا موارد استعماله في الشريعة.
فعلى رأي الجمهور تكون جملة {أبى واستكبر} استئنافًا بيانيًا، وعلى رأي الحنفية تكون بيانًا للإجمال الذي اقتضاه الاستثناء ولا تنهض منها حجة تقطع الجدال بين الفريقين.
وجملة {وكان من الكافرين} معطوف على الجمل المستأنفة، وكان لا تفيد إلا أنه اتصف بالكفر في زمن مضى قبل زمن نزول الآية، وليس المعنى أنه اتصف به قبل امتناعه من السجود لآدم، وقد تحير أكثر المفسرين في بيان معنى الآية من جهة حملهم فعل كان على الدلالة على الاتصاف بالكفر فيما مضى عن وقت الامتناع من السجود، ومن البديهي أنه لم يكن يومئذ فريق يوصف بالكافرين فاحتاجوا أن يتمحلوا بأن إبليس كان من الكافرين أي في علم الله، وتمحل بعضهم بأن إبليس كان مظهرًا الطاعة مبطنًا الكفر نفاقًا، والله مطلع على باطنه ولكنه لم يخبر به الملائكة وجعلوا هذا الاطلاع عليه مما أشار إليه قوله تعالى: {إني أعلم ما لا تعلمون} [البقرة: 30] وكل ذلك تمحل لا داعي إليه لما علمت من أن فعل المضي يفيد مضى الفعل قبل وقت التكلم، وأمثلهم طريقة الذين جعلوا كان بمعنى صار فإنه استعمال من استعمال فعل كان قال تعالى: {وحال بينهما الموج فكان من المغرقين} [هود: 43] وقال: {وبست الجبال بسًا فكانت هباء منبثًا} [الواقعة: 5، 6] وقول ابن أحمر:
بتيهاء قفر والمطي كأنها ** قطا الحزن قد كانت فراخًا بيوضها

أي صار كافرًا بعدم السجود لأن امتناعه نشأ عن استكباره على الله واعتقاد أن ما أمر به غير جار على حق الحكمة وقد علمت أن الانقلاب الذي عرض لإبليس في جبلته كان انقلاب استخفاف بحكمة الله تعالى فلذلك صار به كافرًا صراحًا.
والذي أراه أحسن الوجوه في معنى {وكان من الكافرين} أن مقتضى الظاهر أن يقول وكفر كما قال: {أبى واستكبر} فعدل عن مقتضى الظاهر إلى {وكان من الكافرين} لدلالة كان في مثل هذا الاستعمال على رسوخ معنى الخبر في اسمها، والمعنى أبى واستكبر وكفر كفرًا عميقًا في نفسه وهذا كقوله تعالى: {فأنجيناه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين} [الأعراف: 83]، وكقوله تعالى: {ننظر أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون} [النمل: 41] دون أن يقول أم لا تهتدي لأنها إذا رأت آية تنكير عرشها ولم تهتد كانت راسخة في الاتصاف بعدم الاهتداء، وأما الإتيان بخبر {كان من الكافرين} دون أن يقول وكان كافرًا فلأن إثبات الوصف لموصوف بعنوان كون الموصوف واحدًا من جماعة تثبت لهم ذلك الوصف أدل على شدة تمكن الوصف منه مما لو أثبت له الوصف وحده بناء على أن الواحد يزداد تمسكًا بفعله إذا كان قد شاركه فيه جماعة لأنه بمقدار ما يرى من كثرة المتلبسين بمثل فعله تبعد نفسه عن التردد في سداد عملها وعليه جاء قوله تعالى: {أصدقت أم كنت من الكاذبين} [النمل: 27] وقوله الذي ذكرناه آنفًا {أم تكون من الذين لا يهتدون} وهو دليل كنائي واستعمال بلاغي جرى عليه نظم الآية وإن لم يكن يومئذ جمع من الكافرين بل كان إبليس وحيدًا في الكفر.
وهذا منزع انتزعه من تتبع موارد مثل هذا التركيب في هاتين الخصوصيتين خصوصية زيادة كان وخصوصية إثبات الوصف لموصوف بعنوان أنه واحد من جماعة موصوفين به وسيجيء ذلك قريبًا عن قوله تعالى: {واركعوا من الراكعين} [البقرة: 43].
وإذ لم يكن في زمن امتناع إبليس من السجود جمع من الكافرين كان قوله: {وكان من الكافرين} جاريًا على المتعارف في أمثال هذا الإخبار الكنائي.
وفي هذا العدول عن مقتضى الظاهر مراعاة لما تقتضيه حروف الفاصلة أيضًا، وقد رتبت الأخبار الثلاثة في الذكر على حسب ترتيب مفهوماتها في الوجود وذلك هو الأصل في الإنشاء أن يكون ترتيب الكلام مطابقًا لترتيب مدلولات جمله كقوله تعالى: {ولما جاءت رسلنا لوطًا سيء بهم وضاق بهم ذرعًا وقال هذا يوم عصيب} [هود: 77] وقد أشرت إلى ذلك في كتابي: أصول الإنشاء الخطابة. اهـ.